الطعام في يوم الفلسطيني
How occupation and war have severed the people of Gaza from their culinary history. Words by Doha Kahlout. Illustration by Narmeen Hamadeh.
Good morning and welcome to Vittles. Each Monday we publish a different piece of writing related to food, whether it’s an essay, a dispatch, a polemic, a review, or even poetry. This week, Gazan writer Doha Kahlout reflects on how Palestinians’ relationship with food has been shaped by occupation and war. Here we are publishing the original Arabic version of the text; click here to read an edited version of the essay in English (translated by Katharine Halls). This essay is the first in a series on Palestine and Lebanon commissioned by Vittles in collaboration with N.A. Mansour, and is preceded by a brief introduction to the series.
If you wish to receive Vittles Recipes on Wednesday and Vittles Restaurants on Friday for £5 a month, or £45 a year, then please subscribe below – each subscription helps us pay writers fairly and gives you access to our entire back catalogue.
It is almost impossible to write about food when Palestinians in Gaza are being starved by the Israeli state. English doesn’t even hold the capacity to illustrate in a single word what happens when one human entity forces another to starve, as a deliberate act, as a weapon. But the Arabic language does: Tajwi3.
It is almost impossible to write about Palestine. It’s hard when Palestinians in Gaza have died as they record and document genocide and yet are not being considered reliable sources on their own history and present. When Palestinians are not asked to speak, but instead, careerist experts who parachute into Palestine, both literally and figuratively, are instead asked for their objective opinion.
But we Palestinians are still talking about food: we talk about it to each other and to others, including our Lebanese siblings. Food represents a means of control enacted by white supremacy on the global majority, including indigenous peoples. Conversations about control of food are woven throughout our everyday interactions. This series on Palestine and Lebanon thinks about how food is used by Palestinians and how it is used against us. But in many ways, the writers presented over the next few weeks are all thinking beyond food: as much as they document Palestinian and Lebanese experiences as genocide rages, these writers are thinking about action. As you read the first installation in this series, by Doha Kahlout, I urge you to think about the ways you have not been acting for Palestine: What have you not tried? Can you try it? How will it serve the end of genocide and with it, form part of our collective liberation?
—N.A. Mansour
الطعام في يوم الفلسطيني
Click here to read an English translation of this essay. Note that the translation has been edited, so the two versions differ as a result.
في ماضي جدّتي، التي وافتها المنيّة وهي تحدثنا وتصوّر لنا مدى صعوبته، كان الطعام مغمسّاً بتعبٍ مستمر، حين كانت الزراعة هي أفضل سبل الحصول عليه. الرجال والنساء يعملون أياماً كاملة في سبيل تأمين المحاصيل الزراعية في موسمها. عندها تستذكر جدتي تجربة زراعة بذرة، اختبار التربة، العناية المستمرة بالشجر، الحصول على مواد التسميد المطلوبة، توفير الماء لسقي النبات، معرفة أوقات الجني. علاوة على ذلك، النساء يبدأن صباحهن بجمع الخشب للحصول على شعلة نار لكلّ مطالب الحياة، بين تسخين المياه للاستحمام، غسيل الملابس والأواني، تحضير الطعام، هل كانت النساء تشعرن بالتعب؟ لجدتي كانت تلك أحب الأوقات، لأن الارتباط بالأرض كان كبيراً، لأن الحياة كلّها تعتمد خيرات تمدها الأرض بها. عندما كانت جدتي تتحدث عن البرتقال، يتورّد خداها وهي تقول "برتقال البلاد"، معتقدة أن موسم البرتقال انتهى منذ ذلك اليوم الذي طردت فيه وأولادها من الأرض الزراعية التي كانت تعيش فيها مع جدي بصفتهم "ضامني الأرض"، وأن كل ما تأكله الآن لا يمكن أن يعيدها لذلك الزمان والمكان الذي كانت تقطف فيه البرتقالة من الشجرة، تقشرها وتأكلها تحت الشجرة، تتذوقها في ظلال الشجرة. ذاكرة الطعام بكل صورها كانت تقفز في ذاكرة جدتي كلما مددنا لها وجبة اليوم، فالخبز يعني لجدتي سفراً طويلاً مع الزمن، تعود فيه دون ملل لتحكي لنا رحلة خبزها، "الذهب"، كما تصفه: "حين كانت تجود الأرض بالقمح، وننتظر وقت حصاده، صباح كل يوم نشتري حبوب القمح الناشفة، وفي آلة "الجاروشة" اليدوية نقوم بطحن الحبوب، صوت الآلة يسكنني، استطيع سماعه الآن، وشكل الدقيق في نهاية عملية الطحن كأنك تلمس ذرات ذهب ، ثم تقوم إحدانا بعجنه بينما تقوم الأخرى بإشعال النار في الفرن، فرن مصنوع من الطين، يُخرج أقراصاً من الذهب، نهاية يضحك لها قلب الصغار بعد رحلة تعب بين الانتباه للنار وتحضير الخشب والحطب". كانت جدتي تقسم أنه حتى الماء كان له طعم ألذ بكثير من الآن، حين كانت الحياة تحتاج يدك في كل مطلب.
وسط ذكرى خيرات الأرض هذه، يحضر الاحتلال فجأة كابوساً يستبدل حلم الراحة هذا بيم كل فترة وأخرى من الزمن، يقطع المياه عن الأراضي، يذُر في الأرض مواداً سامة، تستولي على المحاصيل، كيف واجهت جدتي هذه الأيام مدركة أن أطفالها يحتاجون غذاءً؟ تقول أنها في أياماً كثيرة كانت تُسكت جوع الأطفال بتحريك "الجاروشة" دون أن تضع فيها شيئًا، هكذا صوت دون نتيجة، حتى يتعب الصغار وينامون.مع أن جدتي عاشت وسط شحّ الطعام وخوف الغد من المجاعة، وأكلت خبزاً يابساً، وطحنت الذرة لتصبح خبزاً، ذاكرتها حين تقول طعاماً، تنقلها لزمان ومكان واحد: الأرض وسن الصبا.
والفلسطيني هذه تجربته، كل كلمة تحمل معنى خاصاً به وبتجربته، فالطعام في البيت لا يشبه الطعام الذي تأكله وأنت هارب من الموت، أو أنت في سجون الاحتلال، إنها تنقّل الفلسطيني بين أوضاع عديدة، كل وضع كان له طعامه الخاص، حين تعيش في أرضك، تأكل مما تجود به الأرض، حين ترحل مرغماً لمكان لا تعرفه، فإنك تأكل ما لم يخطر على بالك يوماً. منذ أن طُرد الفلسطيني من أرضه في العام 1948، دون فكرة عن مكان يذهب إليه أكثر، باشر يعيش أياماً طويلة على المؤنة التي تقدمها وكالة الغوث الدولية، حتى الآن، في مواجهة جسد جاف من ماء الأرض وخيرها. منذها يعيش أغلب الفلسطينيين على لقيمات في أحيان كثيرة، يصنعون طعاماً متشابهاً كل يوم، حسب ما تقدم لهم وكالة الغوث من مواد، هي "الفول والحمص والبقوليات". إنها كانت بداية لحرب أخرى على الفلاح الذي عاش عمره بين الخضار والفواكه يأكلها طازجة من يد الأرض. إن هنالك أشخاص كثيرون كل ما تعنيه كلمة طعام لهم هي تلك الغصة في قلوبهم أثناء تناولهم اللقمة بجانب خيمة.
وهنالك الأسير السياسي، الذي فقد كل شيء، لا بيت ولا خيمة، ولا طعام يقيم جسده، عمّي كان أحد هؤلاء الأسرى لمدة من الزمن.ن يتحدث أحيانًا عن عذابات السجن التي لا ينتهي. ذاكرته الخاصة بالطعام تحيا وتسير في دمه حين يروي أي نوع من الأكلات التي كانت تقدم لهم في السجن: "العدس، والفاصولياء،و المجدرة"؛ ثلاث وجبات كان يفقد عقله أمامهن، تسري فيه ذاكرة نقص الغذاء، وضعف الجسد، والطعام المُر كما يصفه، هو نهج مدروس، يدفع الأسير إلى فقدان سيطرته على جسده ثم عقله، ثم تأتي الإضرابات عن الطعام التي كان الأسرى يتخذونها نهجاً للاعتراض والمقاومة، ليكون الماء والملح هو ما يقيم أجسادهم، أياماً طوال حتى تتحقق مطالبهم البسيطة. هذه هي صورة الطعام لدى الأسير، عذاب معجون بلقمة مُرّة.
الآن،في ذاكرتنا، نحن أبناء هذا الجيل، الذين كبرنا في حروب متتالية على قطاع غزة، واقتحامات وحوادث قتل وحواجز في الضفة الغربية والداخل المحتل، نمتلك صوراً وأشكالاً وقصصًا خاصة بنا حول الطعام. تذكرنا "البندورة" بالطعام الأخير للفدائي الملاحق لعدة أيام، تتشكّل في ذهننا صورة واحدة ل"مقلاة البندورة". للغزيّ الذي عاش منذ عام 2008 خمسة حروب آخرها مستمرة منذ تسعة أشهر، قد يظهر عداء مع بعض أصناف الطعام التي اضطر لأكلها مدة كبيرة من الزمن لأن لا أصناف غيرها. يغضبه شكل المعلّبات والمواد الحافظة فيها، والأعراض الجانبية التي عانى منها، وسوء التغذية، يغضبه رغيف الخبز خارجاً من فرن الطين بعد أن عاش خمسة أشهر يعجن حبوب الذرة وعلف الحيوانات ليحصل على رغيف واحد خلال يومه، بعد امتلاكه صورة الخبز الغارق في الدم أثناء حرب ما ، رغم وجود ذكريات دافئة عن الولائم مع العائلة والأصدقاء، بينما الحرب تفرضعلى أجسادهم جميعًا نحولاً جماعياً، أفقدت بعض الأطفال الجياع حياتهم، وزادت اضطرابات أجساد الكبار،.
يرافق فكرة الغزي في تناول الطعام حاليًا، معاناة ترتسم معالمها منذ الصباح؛ لكييحصل على فطور بسيط. يشعل ناراً، فتتلون أواني الطبخ بسواد الحاضر القاتم، يعاني من الدخان وغياب النظافة، وسوء طعم أي صنف يعده، يبتلع اللقمة مختنقاً بدمع القهر.
الطعام بالنسبة للفلسطيني هو أغنية وتاريخ وتعريف. ثمار وأكلات عديدة تتداخل في حياته، فالزيتون والزيت أصبحا هوية الفلسطيني. في ديسمبر 2022 خلال زيارة لي لمصر، حين أدرك جاري المصري من لهجتي أثناء حديثي أنني من غزة، سألني "معك زيت فلسطين؟" ثم فجأة،الآن، يُحْرم الفلسطيني من أغنيته وتاريخه،إنه لم يعد قادراً على إحياء ترنيمة حب شجر البلاد وثمره، إنه حاليًا في غزة لا يمتلك أي مقوّم ليطهو وجبة تعبّر عنه، عن اشتياقه للزيت والزيتون، يبحث طويلاً عنطعام، هو يعيد تعريفه للعالم، تعريف أساسه المواد المعلبة وأكلات سماها "وجبات الحرب"، فقيرة من المواد التي يحتاجها الجسد، وغنيّة بالذل والقهر.
هل خطر لك أنك ستأكل أوراق الشجر؟ في القديم كنت أشاهد على التلفاز تهديدات بشأن الصحة والغذاء العالمي في الأعوام المقبلة، بأن العالم معرّض لأكل أوراق الشجر بسبب المجاعة. لم ينفك عقلي عن يتخيل تلك اللحظة، تارة أستبعد خدوثها وتارة أخرى أنتظرها، حتى بلغ الغزيّ هذه اللحظة وعاشها بكل ما تحمله الكلمة من معنى. في نهاية عام 2023 وبداية 2024 عاش أكثر من 350 ألف غزي في شمال قطاع غزة مجاعة طاحنة، لم يتوفر أي منتج غذائي، لا خضار ولا فاكهة، حتى الطحين احتاج ملاحقةً وركضاً لأيام خلف الشاحنات، وقضى أكثر من 1000 شخص نَحْبهم أثناء محاولاتهم الحصول عليه. لم يكن أمام الغزيّ سوى البحث عن بدائل تحمي الأطفال من الجوع، بينما احتمل الكبار وسدّوا جوعهم بالقليل المتوفر، اضطر الغزيّ لأكل "السلق" وهي نبتة تخرج من ماء الأرض، وصنع من هذه الأوراق أكلات مختلفة، باحثاً عن طعام يشعره بالشبع أطول وقت ممكن، وأكل أوراق التوت بديلاً عن وجبة ورق العنب الشهيرة، وصنع من الليمون وجبة، ليمون مغلي مع قليل من الملح، طعام الأطفال والكبار، وعندما اشتد الجوع وقلّت المبيعات حتى كادت تنعدم، لجأ أهل المنطقة لقطف ورق الشجر، طهوه على نار من خشب، ثم أكله الصغار، وكانت النتيجة حالات تسمم تؤدي معاناة بشكل متتالي. يعرفُ العالم أكلات تطهى من أوراق النباتات، غنيّة ولذيذة، لكنّ الغزي بتجربته الخاصة جرّب ما لا يؤكل، تسمم ونجا، وهنالك من لم ينجُ، حقق الفلسطيني نبوءة التلفاز التي شاهدتها قبل أعوام، وحده.
حين انتبه العالم إلى ألم الفلسطيني، ورأى فصول معاناته، مدّ يده للمساعدة، ساق عدداً من الشاحنات المحملة بالبضائع وحاجة الإنسان الصحية والجسدية، لكنّ سلطات الاحتلال أغلقت المعابر في وجه الشاحنات زو منعت غالبيتها، فقررت بعض الدول اسقاط المساعدات جوياً على المواطنيين، بدأت الطائرات الأمريكية بإسقاط عدد من الوجبات القليلة التي لا تغني من الجوع، ثم تبعتها طائرات لدول أخرى، قامت بعمليات الإسقاط عن طريق المظلات. فصار الغزي الذي يعاني المجاعة منذ ستة أشهر على الأقل، يلحق بالمظلات أينما اتجهت، صوب هذا الطعام الساقط من السماء، ومنهم من مات لاهثاً متعباً، ومنهم من سقط عن علوٍ شاهق، ومنهم من سقطت المظلة بثقلها كله على رأسه فانتقل للسماء جائعاً مقهوراً.
يمتلك الفلسطيني أبواباً من ذاكرة الطعام، كل باب له تفاصيله التي لا تتكرر، يحكمها المكان والزمان، والتفاعل مع الأرض والانفصال عنها، السلم والحرب، أبواباً مدهشة في صعوبتها وتمتحن صبرهم، كما القدرة على خلق الحلول أمام خيارات مُعدومة، يحكمها اليأس والحاجة، والذبول في أحيان أخرى، صراع يعيشه الفلسطيني ضمن صراعات عدة، سببها واحد، ولا خلاص منها سوى بالحريّة في الانغماس في الأرض كلها مرة أخرى.
Credits
Doha Kahlout, 27, is a writer and Arabic teacher. Her poetry collection Likenesses (Tariq Publishers) was released in 2018, and she contributed several poems to the anthology Gaza, Land of Poetry (Arab Institute for Research & Publishing, 2021). In addition to writing for various websites, most recently she has contributed to the anthology At Zero Line (Tibaq Publishing, 2024). You can donate to Doha’s crowdfunder here.
Katharine Halls is an Arabic-to-English translator from Cardiff. Her critically acclaimed translation of Ahmed Naji’s prison memoir Rotten Evidence was a finalist for the National Book Critics Circle Award for autobiography. Her work has appeared in Frieze, The Kenyon Review, The Believer, McSweeney’s, The Common, Asymptote, and others.
Narmeen Hamadeh is a Palestinian artist and third-generation refugee. Her art honors and highlights her deep-rooted love for her Palestinian homeland and heritage. Although she has never lived in Palestine, it has always lived in her. You can find her on Instagram here.
The full Vittles masthead can be found here.